مع محمد بن الحنفية:
ومن المؤكد أن محمد بن الحنفية كان يدين بالإمامة للإمام زين العابدين (عليه السلام)، ولم يدّع الإمامة لنفسه، وإنما ادعاها الناس له، وحاشا أن يدعي ما ليس له، فقد كان من أشد الناس ورعاً، ومن أكثرهم تحرجاً في الدين، وكان على بينة من أمر الإمامة في أنها ليست بيد أحد، وإنما مرها إلى الله فهو الذي يهبها لمن يشاء من عباده، وهو على يقين أن إمام عصره هو الإمام زين العابدين (عليه السلام)، ويقول الرواة: أنه جرى بينه وبين الإمام نزاع صوري حول الإمامة فاتفقا على المضي إلى الكعبة ليتحاكما عند الحجر الأسود، وهو الذي يكون حاكماً بينها وإنما اتفقا على ذلك لبلورة الرأي العام، وإرجاع القائلين بإمامة محمد إلى الحق، وسافرا إلى مكة فلما انتهيا إليها توجها نحو البيت الحرام، واستقبل الإمام الحجر الأسود، ودعا بهذا الدعاء:
(اللهم إني أسألك باسمك المكتوب في سرادق المجد، وأسألك باسمك المكتوب في سرادق البهاء، وأسألك باسمك المكتوب في سرادق العظمة، وأسألك باسمك المكتوب في سرادق الجلال، وأسألك باسمك المكتوب في سرادق القدرة، وأسألك باسمك المكتوب في سرادق السرائر، السابق، الفائق الحسن النضير، رب الملائكة الثمانية، ورب العرش العظيم، وبالعين التي لا تنام، وبالاسم الأكبر، وبالاسم الأعظم، الأعظم، الأعظم، المحيط بملكوت السماوات والأرض وبالاسم الذي أشرقت به الشمس، وأضاء به القمر، وسخرت به البحار، ونصبت به الجبال، وبالاسم الذي قام به العرش والكرسي، وبأسمائك المقدسات المكرمات، المكنونات، المخزونات في علم الغيب عندك أسألك بذلك كله أن تصلي على محمد وآل محمد..)(18).
وأنطق الله الحجر الأسود، من باب الإعجاز - كما أنطق عيسى بن مريم وهو في المهدي صبي - بأن الإمام هو زي العابدين وهو حجة الله على خلقه، وأمينه على دينه، واستبان بذلك الحق(19)ورجع حشد من القائلين بإمامة محمد إلى الإمام زين العابدين، وقد نظم هذه الحادثة الشاعر الكبير السيد الحميري:
عـلـــــــي وما كــــان مع عمه*** بـرد الإمامــــة عـطف العنان
وتحــكيمه حـــجــــراً أســــوداً***وما كـــان من نطقه المستبان
بتسليـــــم عــــــم بلا مــــــرية***إلى ابـــن أخ منطـــقا باللسان
شهـــدت بــــــذلك صدقــــاً كما***شهدت بتصــــــديق آي القرآن
عـــلي إمامـــــي لا أمتــــــري***وخليت قولي بكان وكان(20)
رجوع الكابلي إلى الحق:
وكان أبو خالد الكابلي يدين بإمامة محمد بن الحنفية إلا أنه رجع عن ذلك لما استباه له الحق، ودان بإمامة الإمام زين العابدين (عليه السلام)، والسبب في ذلك حسبما يقول الرواة: أنه قال لمحمد بن الحنفية: (جعلت فداك إن لي حرمة ومودة وانقطاعاً، أسألك بحرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) ألا أخبرتني أنت الإمام الذي فرض الله طاعته على خلقه؟).
فأجابه محمد جواب المؤمن الذي لا يبغي إلا الحق قائلاً:
(يا أبا خالد حلفتني بالعظيم، الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) علي وعليك، وعلى كل مسلم..).
وأسرع أبو خالد نحو الإمام علي بن الحسين فاستأذن عليه فأذن له، وقابله بحفاوة وتكريم قائلاً له:
(الحمد الله الذي لم يمتني حتى عرفت إمامي..).
وأسرع الإمام قائلاً:
(كيف عرفت إمامك؟..).
(إنك دعوتني باسمي الذي سمتني به أمي!! وقد كنت في عمياء من أمري، ولقد خدمت محمد بن الحنفية دهراً من عمري، لا أشك أنه الإمام حتى سألته، بحرمة الله، وحرمة الرسول، وحرمة أمير المؤمنين، فأرشدني إليك، وقال: هو الإمام علي وعليك، وعلى الخلق كلهم..)(21).
ونظم السيد الحميري هذه الحادثة بقوله:
عجــــــبت لكــــــر صروف الزمان***وأمــــــر أبــــــي خــــالد ذي البيان
ومــــــن رده الأمــــــر لا ينـثـنــــي***إلى السيد الطهر نور الجنان(22)
من دلائل إمامته:
وكان من دلائل إمامته إخباره بوقوع بعض الأحداث في المستقبل، وقد تحققت بعد عشرات السنين كما أخبر عنها، وتعتبر هذه الظاهرة - عند الشيعة الإمامية - من دلائل الإمامة، فإن الإخبار عن المغيبات من مكنونات علم الله تعالى، ولا يمنحها إلا لأنبيائه وأوصيائهم، ومما يدلل على ذلك أن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أخبر عن كثير من الملاحم، وقد تحققت كلها على مسرح الحياة، فقد أخبر عن مصارع أهل النهروان، ومصرع ذي الثدّية، وأخبر عن زوال دولة بني أمية، وأخبر عن كثير من الأحداث ما لو جمعت لكانت كتاباً، وقد تحقق كل ما أخبر عنه، وهو القائل لأصحابه:
(سلوني قبل أن تفقدوني.. فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء بينكم وبي الساعة إلا أخبرتكم به)..
وقال مرة لأصحابه:
(لو شئت لأخبرتكم بما يأتي ويكون من حوادث دهركم، ونوائب زمانكم، وبلاء أيامكم، وغمرات ساعاتكم..).
.. وعلق الأستاذ عبد الفتاح عبد المقصود على ذلك بقوله: (ولم يكن - أي الإمام - يرجم بظن، ولا يستقرئ النجوم، ولا يلتجئ للكهانة، وهو يرى بعينه إلى ما وراء المعلوم المنظور ليأتيهم بشذرة من المجهول المستور.
إنما كان ينطق عن حق لا شبهة فيه لأنه كان عندئذٍ يطلعهم على بعض علم محمد (صلى الله عليه وآله) الذي اختصه به من دون الناس..)(23).
إن الله تعالى قد منح أئمة أهل البيت (عليهم السلام) طاقات مشرقة من العلوم، وخصهم بمكنونات غيبه للتدليل على إمامتهم وقيادتهم الروحية والزمنية لهذه الأمة، وممن خصّه بهذه الفضيلة الإمام زين العابدين (عليه السلام)، فقد أخبر عن كثير من الملاحم التي تحققت بعده، وكان من بينها:
1- إخباره عن شهادة زيد:
من الملاحم التي أخبر عنها الإمام (عليه السلام) أنه أخبر عن شهادة ولده الشهيد العظيم زيد، فقد روى أبو حمزة الثمالي قال: كنت أزور علي بن الحسين في كل سنة مرة وقت الحج، فأتيته سنة، وكان على فخذه صبي فقام عنه، واصطدم بعتبة الباب فخرج منه دم، فوثب إليه الإمام، وجعل ينشف دمه، وهو يقول له:
(إني أعيذك بالله أن تكون المصلوب بالكناسة...).
وبادر أبو حمزة قائلاً:
(بأبي أنت وأمي أي كناسة؟...)
(كناسة الكوفة..).
(جعلت فداك أيكون ذلك؟..)
(أي والذي بعث محمداً بالحق إن عشت بعدي لترين هذا الغلام في ناحية الكوفة مقتولاً، مدفوناً، منبوشاً، مصلوباً بالكناسة، ثم ينزل فيحرق، ويدق ويذرى في البر..).
وبهر أبو حمزة وراح يسأل عن اسم هذا الغلام قائلاً:
(جعلت فداك ما اسم هذا الغلام؟..).
(زيد)..
وتحقق كل ما أخبر به الإمام فلم تمض حفنة من السنين حتى ثار زيد الشهيد الذي هو من ألمع الثائرين الأحرار فقد ثار في وجه الطغيان الأموي مطالباً بتحقيق العدالة الإسلامية، وتحقيق حقوق الإنسان فأجهزت عليه القوى الظالمة فأردته قتيلاً وانبرى بعض أنصاره فدفنه، إلا أن الحكومة الأموية أخرجته من قبره، وصلبته، في كناسة الكوفة، وبقي أربع سنين مصلوباً على جذع وهو ينير للناس طريق الحرية والشرف والكرامة، ثم أنزلوه بعد ذلك وأحرقوه، وذروا قسماً من رماده في ماء الفرات ليشربه الناس حسبما يقول الأمويون.
لقد تحقق جميع ما أخبر به الإمام في شأن ولده العظيم، ومن المؤكد أن ذلك من علائم الإمامة ودلائلها.
2- إخباره عن حكومة عمر بن عبد العزيز:
من الملاحم التي أخبر عنها الإمام (عليه السلام) أنه أخبر عن عمر بن عبد العزيز وأنه سيلي أمور المسلمين ولا يلبث إلا يسيراً حتى يموت(24) وتحقق ذلك فقد ولي عمر الخلافة وبقي زمناً يسيراً ووافاه الأجل المحتوم.
3- إخباره عن حكومة العباسيين:
وأخبر (عليه السلام) عن حكومة العباسيين، وقد استشف من وراء الغيب أن حكمهم يقوم على الظلم والجور وعلى الفسق والفساد، وسيخرجون المسلمين عن دينهم، وستثور عليهم كوكبة من العلويين مطالبين بتحقيق العدل والحق بين الناس، وأنهم سينالون الشهادة على أيدي أولئك الطغاة، وهذا نص حديثه روى الإمام أبو جعفر عن أبيه أنه قال: أما أن في صلبه - أي صلب ابن عباس - وديعة ذرية لنار جهنم وسيخرجون أقواماً من دين الله أفواجاً، وستصبغ الأرض من فراخ آل محمد (صلى الله عليه وآله) تنهض تلك الفراخ في غير وقت، وتطلب غير مدرك، ويرابط الذين آمنوا، ويصبرون حتى يحكم الله(25).
لقد ثارت كوكبة من العلويين المجاهدين على طغاة بني العباس، فقد رفع علم الثورة محمد وإبراهيم على المنصور الدوانيقي الذي هو أعتى ملك في تاريخ هذا الشرق، وكذلك ثار الحسين بن علي صاحب واقعة الفخ على الهادي العباسي، وثار على غير هؤلاء من أبناء الرسول (صلى الله عليه وآله) وقد رفعوا راية الحرية والكرامة مطالبين بحقوق المظلومين والمضطهدين، وقد سقوا بدمائهم الزكية شجرة الإسلام التي جهد العباسيون الأقزام على قلعها.
هذه الملاحم التي أخبر الإمام زين العابدين (عليه السلام) عن وقوعها، وقد تحققت كما أخبر (عليه السلام).
لقد منح الله زين العابدين العلم الذي لا يحد كما وهب آباءه، وكان (عليه السلام) يكتم علومه، ولا يذيعها بين الناس لئلا يفتتن به الجهال وقد أعلن ذلك بقوله:
إني لأكتــــــم من عــــــلمي جـــــواهره***كيــــــلا يــــــرى الحــق ذو جهل فيفتتنا
يا رب جــــــوهر عــــــلم لــــو أبوح به***لقيــــــل لــــــي أنـــــت ممن يعبد الوثنا
ولاستحــــــل رجــــــال مسلمون دمـــي***يرون أقبــح ما يأتونــــــه حــــــسنــــــا
وقــــــد تقــــــدم فــــــي هـــذا أبو حسن***إلى الحسين وأوصى قبله الحسنا(26)